إسرائيل وإيران- رد محدود وتداعيات مواجهة قادمة؟

جاء الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني، الذي استهدف بشكل خاص القواعد الجوية الإسرائيلية، بصورة محدودة ومتأنية، وكان حجم الرد الإسرائيلي أقل مما توقعته طهران. حيث اختارت إسرائيل بدقة استهداف منظومات الدفاع الجوي بالقرب من مدينة أصفهان الإيرانية، دون تحمل المسؤولية المباشرة عن هذا الهجوم؛ وذلك بهدف واضح وهو إنهاء هذه المواجهة العسكرية العلنية الأولى مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
هناك جملة من الأسباب الحاسمة التي دفعت القيادة الإسرائيلية إلى إبداء رد فعل محدود على الهجوم الإيراني، والذي جاء كعمل انتقامي لاغتيال إسرائيل لعدد من قادة "فيلق القدس" في العاصمة السورية دمشق، قبل ما يقارب الشهر.
لعب عنصر التوقيت دورًا جوهريًا في قرار إسرائيل بالرد بشكل محدود على الهجوم الإيراني. فإسرائيل تخوض معارك عسكرية متعددة الأوجه وبمستويات متفاوتة في كل من قطاع غزة والأراضي اللبنانية والضفة الغربية؛ حيث أن الجيش الإسرائيلي يعاني من استنزاف كبير في هذه المناطق الثلاث. والجدير بالذكر أن الوزير غادي آيزنكوت، العضو البارز في مجلس الحرب الإسرائيلي، قد اعترف في تصريح له أمام "مركز الديمقراطية" الإسرائيلي بأن الجيش الإسرائيلي قد فشل في تحقيق كامل أهداف الحرب على غزة بعد مرور ستة أشهر، على الرغم من استخدامه قوة نيران هائلة؛ وأن دوائر صناعة القرار في تل أبيب تدرك تمامًا أن المضي قدمًا نحو فتح مواجهة شاملة مع إيران في هذا التوقيت تحديدًا، يشكل قفزة محفوفة بالمخاطر الإستراتيجية الفادحة وغير المدروسة.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن التصعيد العلني مع إيران، قد يشعل فتيل مواجهة شاملة تخشى تل أبيب من أن تدفع حزب الله تحديدًا إلى الانخراط فيها بشكل كامل، الأمر الذي سيشكل تهديدًا غير مسبوق للجبهة الداخلية الإسرائيلية الضعيفة.
وعلى الرغم من أن حزب الله يحرص حاليًا، وفي إطار دعمه للمقاومة الفلسطينية في غزة، على شن هجمات محدودة من حيث النطاق الجغرافي وطبيعة الوسائل المستخدمة والأهداف التي يتم قصفها؛ إلا أن مراكز التقدير الاستراتيجي في تل أبيب تتوقع أن مواجهة شاملة مع إيران، ستدفع الحزب إلى استخدام كافة الإمكانات الهائلة التي تمتلكها ترسانته الصاروخية الضخمة.
ووفقًا للتقديرات الإسرائيلية الدقيقة، فإن ترسانة حزب الله تقدر بعشرات الآلاف من الصواريخ المتنوعة، يتميز العديد منها بمديات بعيدة وقدرة على حمل رؤوس متفجرة ثقيلة، إضافة إلى تمتع بعضها بدقة إصابة عالية، مما يمنح الحزب القدرة على استهداف المرافق الحيوية والحساسة داخل العمق الإسرائيلي وتعطيلها.
وكان موقع "واللا" الإسرائيلي قد نقل في الأسبوع الفائت عن مصادر مطلعة في جيش الاحتلال، تقديرها بأن حزب الله قد استخدم منذ بداية الحرب على غزة ما لا يزيد عن 5% فقط من ترسانته الصاروخية، وأن عملياته المتواضعة هذه قد أجبرت، على الرغم من ذلك، عشرات الآلاف من سكان المستوطنات اليهودية في الشمال على النزوح من منازلهم.
ولا ننسى أيضًا أزمة القوى البشرية المتفاقمة التي يعاني منها جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي اضطرته إلى تجنيد أعداد غير مسبوقة من ضباط وجنود الاحتياط؛ في ظل نجاح الأحزاب الدينية الحريدية المشاركة في حكومة بنيامين نتنياهو – حتى هذه اللحظة – في منع سن أي قانون يلزم بتجنيد أبناء التيار الحريدي المتشدد.
علاوة على ذلك، تخشى إسرائيل من أن يؤدي التصعيد العلني مع إيران، إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق قد تسفر نتائجها عن تقويض الدعم الغربي الذي حظيت به بعد الهجوم الإيراني الأخير.
وقد حذر غيورا آيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، من أن اندلاع حرب إقليمية شاملة، قد يدفع إيران إلى استهداف منشآت النفط الحيوية في منطقة الخليج العربي، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة بصورة جنونية، الأمر الذي سيجعل الدول الغربية تلقي باللوم على تل أبيب وتحملها المسؤولية كاملة.
وفي الوقت ذاته، فإن استهداف إيران، في سياق حرب شاملة، لدول عربية ترتبط بإسرائيل باتفاقات "سلام" أو تطبيع، سيهدد علاقات تل أبيب الهامة والحيوية بهذه الدول. فقد أدركت إسرائيل الأهمية الجيوستراتيجية الكبيرة لعلاقاتها بعدد من الدول العربية، عندما لعب تعاون هذه الدول دورًا حاسمًا في احتواء الهجوم الإيراني الأخير وتقليص أضراره.
من زاوية أخرى، تبرر إسرائيل محدودية ردها بأنه يمثل أيضًا استجابة للضغوط الغربية المتزايدة، وتسعى حاليًا بكل قوة إلى توظيف ذلك في دفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى الانخراط الفعال في تحرك سياسي ودبلوماسي مكثف ضد إيران، من خلال فرض قائمة طويلة من العقوبات الصارمة التي تستهدف برنامجها النووي وطموحاتها التوسعية، وترسانتها الصاروخية المتنامية. وبالفعل، فقد بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في فرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية والتجارية ضد إيران.
إلى جانب ذلك، تعرب القيادات الإسرائيلية عن رغبتها العارمة في بناء تحالف أمني إقليمي قوي بقيادة الولايات المتحدة، يضمها إلى جانب دول عربية معتدلة؛ انطلاقًا من قناعتها الراسخة بأن العوائد الإستراتيجية التي ستجنيها من هذا التحالف تفوق بمراحل العوائد المحتملة لحرب إقليمية مدمرة مع إيران.
هل يُسدل الستار فعلاً؟
لكن على الرغم من كل المعطيات المذكورة أعلاه، فإنه من الصعب الجزم بشكل قاطع بما إذا كانت محدودية الرد الإسرائيلي ستؤدي فعلًا إلى طي صفحة هذه المواجهة العلنية الأولى مع إيران وإغلاق هذا الملف الشائك.
وإذا كانت المواجهة الحالية قد اندلعت في أعقاب اغتيال إسرائيل لعدد من كبار قادة "فيلق القدس" الإيراني في دمشق؛ فإن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: هل سترد إيران بشكل مباشر على إسرائيل في حال استأنفت استهداف قادتها العسكريين في سوريا؟ أم أن رد طهران الأخير كان مرتبطًا فقط بحقيقة أن اغتيال قادة "فيلق القدس" تم داخل مبنى القنصلية الإيرانية الذي يتمتع بحصانة دبلوماسية؟ مع العلم أن قادة إسرائيل – وعلى رأسهم وزير الحرب يوآف غالانت – يواصلون التأكيد باستمرار على أن إسرائيل ستواصل استهداف "كل من يشكل تهديدًا مباشرًا على أمنها القومي".
وإذا امتنعت إسرائيل عن مواصلة استهداف القيادات العسكرية الإيرانية في سوريا، على وجه الخصوص، فإن ذلك سيشكل مؤشرًا قويًا على نجاح إيران في فرض معادلة ردع جديدة ضد إسرائيل، وتغيير قواعد الاشتباك معها بشكل يخدم مصالحها.
وعلى صعيد آخر، قد تجد كل من إيران وإسرائيل نفسيهما مرغمتين على الاشتباك مجددًا وبقوة في حال تفجرت مواجهة عسكرية واسعة النطاق بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله اللبناني. صحيح أن إسرائيل تخشى بشدة تداعيات المواجهة المحتملة مع حزب الله؛ وذلك بسبب المخاطر الجدية التي تشكلها ترسانته الصاروخية على جبهتها الداخلية المتهالكة، لكن قادة تل أبيب قد قطعوا التزامًا صارمًا أمام الرأي العام الإسرائيلي – وتحديدًا أمام سكان المستوطنات الشمالية – بأنهم لن يسمحوا باستمرار إخلاء هذه المستوطنات بفعل نيران حزب الله المتواصلة؛ وأنه في حال فشلت الجهود الدبلوماسية المكثفة في التوصل إلى تسوية مرضية تضمن وقف حزب الله لعملياته العسكرية، فإن مواجهة عسكرية شاملة ضد الحزب ستكون حينها أمرًا حتميًا لا مفر منه.
وفي حال اندلعت مواجهة عسكرية حقيقية بين إسرائيل وحزب الله، فإن ذلك سيزيد بشكل كبير من فرص حدوث تصعيد علني آخر ومباشر بين طهران وتل أبيب ودخول المنطقة في دوامة من العنف لا نهاية لها.
لقد تفجرت المواجهة العلنية الأولى بين إيران وإسرائيل؛ لأن قادة تل أبيب قد أساؤوا تقدير ردة فعل طهران المحتملة على اغتيال قادة "فيلق القدس" في مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق. ولا توجد أي ضمانة قاطعة بأن التقديرات الخاطئة من قبل أحد الطرفين بشأن نوايا وتوجهات الطرف الآخر، لن تدفع هذين الطرفين مرة أخرى إلى مواجهة جديدة، قد تكون هذه المرة أكثر ضراوة وشمولية من سابقاتها.
